الخميس، يوليو 28، 2016

ما بين اردوغان واورهان (مؤلف الكتاب الاسود)

ما بين اردوغان واورهان (مؤلف الكتاب الاسود)

الأحداث الدراماتيكية المتصارعة في تركيا مؤخرا، اعادت إلى ذاكرتنا احداث رواية مشابهة قرأتها قبل عدة سنوات، لروائي تركي مجيد حاز على جائزة نوبل للآداب عن روايته (اسمي أحمر)، فحوى الرواية عبارة عن مادة تاريخية فنية تروي مآسي الاغتيالات والمؤامرات والدسائس يُحيكها حماة المسلمات الإسلامية الخاصة بفنون النقش، تدور أحداث الرواية في إسطنبول، عاصمة الدولة الإسلامية في القرن السادس عشر، يحكمها حينذاك سلطان عثمانيّ يهابه ويحترمه شعبه حدّ التقديس أحيانا، كما اردوغان الآن إلى حد ما، كان ينادونه بـ (اساس العالم حضرة سلطاننا) تتناول في مجمل أحداثها حياة النقاشين العاملين في الدولة العثمانية، الذين كانوا يرسمون وينقشون ويزخرفون الكتب والمؤلفات التي تعد للخليفة أو تهدى له، أو التي يريد الخليفة إهداءها لملك او رئيس من اصدقائه.
هذه الرواية التاريخية تناولت حقبة من حياة الإمبراطورية العثمانية وتحريمها لفن الرسم إلا بشروط معينة تخضع المرسوم إلى عدم المطابقة مع الواقع، وإلا اعتبر تحدياً للقدرة الإلهية على الخلق. وبسبب هذا التحريم اقتصر اهتمام الرسامين في ذلك الوقت على النقش والزخرفة لدرجة أنهم كانوا يسمون أنفسهم نقاشين بدل رسامين.
تناقش الرواية مسألة التبعية الدينية المتناقضة ما بين من يمثل الدين وعامة الناس، وبينما تشرح الاحدث بالتفصيل خوف النقاشين من التطرق إلى محرمات الرسم، نفاجأ بالسلطان الكبير خليفة المسلمين، يطلب بنفسه سراً إنجاز رسم له يناقض كل الأساليب التقليدية القديمة، ويسمح بأن يتبع فيه أساليب الإفرنج الحديثة من التركيز عليه وعلى صورته بدل الاهتمام بالمظاهر الثانوية.
يرغب السلطان من هذا الكتاب السري سرد مواضيع مختلفة بمستوى يجعله متفاخرا أمام الغرب ويظهر مدى قوته، فيعيّن احد كبار النقّاشين سفيراً له في إيطاليا، وفي الحقيقة كان جاسوساً ثقافيا، كُلف فيما بمهمة انجاز هذا السفر السري الخطير، شّكل فريقه السري لإنجاز الأمر السلطاني، يشعر أحد الرسامين المشاركين في الكتاب بالقلق ويريد الانسحاب ويعرّض بذلك المشروع بأكمله للخطر، يتعرّض للقتل فيشرع فشرع كبير النقاشين في التحقيق لمعرفة القاتل ومن يقف وراءه.
لم يهمل الكاتب الحياة الاجتماعية، فيتحدث عن إسطنبول بما فيها من أماكن وأعمال وطبقات اجتماعية وتيارات متصارعة متشددة دينيا، تعتبر حتى شُرب القهوة عملاً من تدبير الشيطان، وأخرى معتدلة ومتفلتة لا تدير لشيء بالاٌ. كما اسدى اورهان لقرائه معروفاً بإعطائهم لمحة عن ملامح الحضارة التركية القديمة، إذ انه يأخذهم في جولة سياحية تاريخية مثيرة للاهتمام، فتارة يجد القارئ نفسه أمام المُدّاح، وتارة في ذلك السوق الشعبي حيث تتبضع الجواري، وتارة يلمح ذلك الرسام العجوز، وهو ينقش و يزّخرف و يرسم الصفحات مستعيناً بضوء الشموع المتقد حتى يفقد بصره، يبدو لي أن المشهد التركي لم يختلف كثيراً منذ القرن السادس عشر من حيث التناقض.
بشيء من السخرية ينسج اورهان باموق موضوعات كبيرة في روايته بأناقة مرحة، فهو مثلا يدع مخنثا يتحدث عن أسباب التفوق العثماني على بلاد الإفرنج الواقعة في وسط اوروبا فيقول: لأن نساء الإفرنج يتزيّن في المدن، ولا يكشفن عن وجوههن فقط، وإنما أيضا عن مفاتنهن، شعورهن البراقة، رقابهن، أذرعهن، أعناقهن الجميلة، أجل، حتى جزءا من سيقانهن الجميلة، يواجه الرجال على الدوام هذا السفور بالانتصاب، فيستديرون لذلك في حياء وخجل، ولا يكادون يستطيعون المشي، وهو ما أدى بالطبع على حد قوله إلى شل المجتمع بأكمله، هذا هو السبب في أن الإفرنج الكفار يفقدون لصالحنا نحن العثمانيين كل يوم حصنا أخر.
يقول احد النقّاد في (اسمي أحمر) يرمي اورهان إلى بعض المفاهيم المخفية بين السطور، على سبيل المثال، استناداً إلى ذلك الحقبة التاريخية المحتشد بالأخلاقيات الفاضلة في إسطنبول حيث النساء الملتزمات بالخمار والحشمة، والرجال المداومين على صلاة الجماعة في المساجد، والمتصوفة المحبين لرسولهم الكريم (ص)، رغم ذلك نجد أن الزنا يبدو في عرفهم محض عادة عادية جداً، بل حتى أن أحدهم يتفاخر بتاريخه في ممارسة الجنس مع مختلف العاهرات. ويتساءل الناقد: هل يقصد الكاتب أنهم يسيئون فهم الإسلام على الوجه السليم؟ أم أن الإسلام لم يكن بالنسبة لهم أكثر من لقب حضاري من غير الضروري الاحتذاء و التقيد به؟ يشير الكاتب أيضاً إلى مفهوم (تصارع الحضارات) حين أراد بعض النقاشين الأتراك محاكاة النقوش الإيطالية و الإفرنجية، بينما كان البعض الآخر رافضاً تماماً لهذه الفكرة معتبرها طريقاً إلى الضلال، فيوضح الكاتب تضاريس الفكر المتفاوت الحجم في تلك الحقبة الزمنية.
تطرق اورهان باموق في روايته هذه إلى قضية التطرف الديني بطريقة ساخرة، وسخريته المبطنة من خزعبلات المؤمنين! إذ يحدّثنا عن الشيخ الأرضرومي (الداعشي الظلامي) الذي يحرّض أتباعه على مهاجمة النقاشين والنقش خانات، وكل ما كان جديداً على المدينة في ذلك الوقت، حيث انه يحرّم شرب القهوة قائلا: "أيها المؤمنون، شرب القهوة حرام، ولأن حضرت نبينا يعرف أنها تخدر العقل وتثقب المعدة، وتسبب الفتق والعقم، ولأنها حيلة شيطانية فإنه (ص) لم يكن يشرب القهوة قط، إن المقاهي أمكنة يقصدها أهل الكيف"
ورد في موقع تركيا بوست عن الرواية: العمى معضلة النقاشين الكبيرة، فهو خوفهم الأزلي الذي يعرفون أنه بانتظارهم، فحياة النقش الصعبة، والتركيز على أدق التفاصيل ورسمها بحرص، والاستمرار طويلا على حركة واحدة من الجلوس والانكباب على الورقة، تجعل من العمى مصيراً لنقاشي العالم كله آنذاك. لكن النقاشين، الفارسيين القدامى تحديداً، حوّلوا معنى العمى، المظلم والمخيف، الذي سيحرمهم من التلذذ برؤية الرسوم والنقوش والحياة الجميلة التي أمامهم، حوّلوه لمعنى رائع، فكانوا يرونه كهدية إلهية تقدّم إليهم بعد حياة شقاء طويلة وتعب، فكأن الله يريد أن يريحهم ويخلّصهم من العالم، ويدخلهم في نور الله والذاكرة والتذكّر، حتى إن بعض النقاشين الذين كانوا يشيخون ولا يصيبهم العمى يقومون بتعمد وخز عيونهم بإبر خاصة لتعمى، وبعضهم كان يضطر إلي القيام بذلك حين تتغيّر الدولة ويجبر على الرسم بطريقة ترفضها مبادئه، فيقوم بتعمّد العمى ليتجنّب السير في طريق لا يريده
واللون الاحمر  المتخذ منه اسم الرواية، هو الأكثر استخداماً في الرسم الإسلامي، وهو لا يمثل لون الدم والجريمة فقط، بقدر ما هو لون الجنة التي تـنتظر روح الفنان بعد الموت، إنه الأحمر المتوهّج على اجنحة الملائكة وعلى شفاه النساء، بقدر ما هو ذلك النازف من جروح القتلى والرؤوس المقطوعة.
إسناد باموق مهمة نقل الرسائل بين العشاق وكشفها لمنافسيهم مقابل اجر، إلى السيدة استرا اليهودية فيها اشارة ضمنية إلى خبث اليهود واضطلاعهم بالدسائس بين الشعوب
في الرواية، فك لبعض الرموز التشكيلية فالأسد يمثل الإسلام، والخنزير الذي يطارده هو الكفر، الشجرة تعنى الخلود، والخيول تعنى التعب،  الكلاب تعنى الشرف
اورهان باموق، من مواليد 1952 له العديد من الروايات وهو (سيد الاسم) للكتاب الاسود، رواية اسمي احمر صدرت عام 1998 وتقع في أكثر من 500 صفحة قيل أنها من أهم الروايات التي صدرت في العقد الأخير من القرن الماضي، استغرقت كتابة هذه الرواية عشر سنوات كاملة، نال بها جائزة نوبل للآداب عام 2006 بإجماع النقاد عن استحقاقها قبل إعلان الجائزة، و اورهان اول كاتب تركي حصل على جائزة نوبل، ترجمت هذه الرواية إلى اكثر من اربعين لغة.
رغم ان الرواية متعبة، وغريبة السبك، وهي فعلا طويلة، وقراءتها ليست سهلة، وتحتاج رغبة لمعرفة ذلك الزمن الذي كتب عنه اورهان، وحباً للرسم والنقش وفنون الزخرفة الإسلامية التي كانت محور أحداث الرواية، فقد اعترف اورهان مؤخراً انه ترك دراسة المعمار وإمتهن التأليف عوضا من الرسم، ورغم التعقيد وصعوبة الرواية، إلا إنني عندما انهيت قراءتها حزنت جدا وددت لو أنها لم تنته. لا يمكن ان تصدر مثل هذه الرواية ذات التكثيف القصصي إلا من روائي ذي خيال شيطاني مفتوح القدرات، ويبدو لي شأن باموق في هذا العمل شأن أي سلطان من سلاطين آل عثمان، ترك بصماته باقية إلى الابد
وجه الشبه بين احدث رواية (اسمي أحمر)  لاورهان والأحداث الأخيرة في تركيا اردوغان، هو رغبة السلاطين العثمانيين في الانقلاب والخروج علي الثوابت الشعبية، فسبب مقتل النقاش الذي اضطرب نفسيا بسبب التكليف السري للسلطان بتأليف كتاب يخرج عن ثوابت مدرسة النقش الإسلامية، والاحتذاء بمدرسة الفرنجة، لتخليد ذاته السلطانية، هذا المنعطف شكل المحور الاساس لأحداث الرواية. كذلك نجد أن دافع المحاولات الانقلابية المتكررة ضد نظام اردوغان المُصر على تغيير الدستور التركي العلماني، وتبديل النظام البرلماني بنظام رئاسي يناسب طموحاته السلطانية. بكل سهولة نجد تقاطع بين مسرح عمليات الحدثين، بشكل مقلوب إلى حد ما، ففي (اسمي أحمر) اغتيل احد ابطال الرواية بسبب حرصه على الثوابت الاسلامية، في حين أن مدبري الانقلاب ضد نظام اردوغان هم متهمون بحماية العلمانية، ضد توجه اسلمة الدولة التركية.
تجدر الاشارة إلى أن الكاتب والروائي العالمي اورهان باموق يفضل وهو افضل من يتناول الشأن التركي على الهواء مباشرة، وقد تعرّض للاعتقال عدة مرات بسبب مواقفه من سياسيات اردوغان العامة، وطريقة معالجته للقضية الكردية بوجه خاص، فالرجل مغضوب عليه في تركيا اردوغان، بل انه ملاحق من قبل السلطات العدلية التركية بتهمة تشويه سمعة بلاده خارجيا او التندر بها، فقد اعابوا عليه موقفه من مجزرة الارمن الشهيرة التي ارتكبتها السلطات العثمانية عام 1915 وأدت الى مقتل اكثر من مليون شخص وتشريد مئات الالاف على الطرقات والشوارع الأزقة.
ما بين اردوغان واورهان، تبرز معضلة علاقة السطلة بالمثقف، وبخاصة في البلدان التي لم تترسخ فيها الممارسة الديمقراطية بشكل كاف، وينتصب التساؤل، هل من الضروري أن يكون الأخير مع المين إستريم (Mainstream) على طول الخط، او ان يقوم بدور كلب الحراسة للسطلة الحاكمة اية كانت؟ أدوار سعيد نفى نفياً قاطعا بألا ينبغي للمثقب أن يكون لا هذا ولا ذلك.  
//ابراهيم سليمان//



ليست هناك تعليقات: