الثلاثاء، مايو 17، 2016

الثورة تُراجع ولا تتراجع

الثورة تُراجع ولا تتراجع

رغم أن عنوان هذا المقال، شعار منسوب لسفاح هالك، إلا انه لا يضيرنا استخدامه، فلكلٍ ثورته، واللغة ليست حكراً لأحد.
القليلون هم من يشككون في أن الثورة الحقيقية المضادة لنظام البشير قد انطلقت شرارتها في سبتمبر وتجددت في ابريل، والكثيرون يرون ان نظام الإنقاذ قد وصل إلى الحضيض في تراجعه عن الثوابت الوطنية والقيم الأخلاقية، ومنذ البداية كان رهان ثاقبي النظر على الحركة الطلّابية في هزيمة الانقلابين، ويبدو انهم الرابحون، وإن طال الترقب وامتد الانتظار.
معروف كيمائياً، أن مثلث الاشتعال، قاعدته الحرارة، والوقود والأكسجين يشكلان الضلعين الآخرين. ومراجعة الثورة المباركة الحالية ينبغي ان يتمحور في هذا المثلث. فالراصد لدرجات الحرارة السياسية في البلاد، يلاحظ أنها تجاوزت الخط الأحمر المرسوم بدماء الشهداء، وأن التنور قد فار، والفاحص لتاريخ الملحمات الوطنية، يجد أن طلاب الجامعات هم وقود هذا الثالوث، ومن الملاحظ أن اعدادهم قد تضاعفت مئات المرات منذ تحويل النظام معظم المدارس الثانوية إلى جامعات، والمراقب للحركة الطلابية، يدرك بسهولة، أنهم قد كسروا حاجر الخوف من آلة النظام القمعية، وأنها توحدت وجدانياً على امتداد ربوع الوطن، واصبحت كالبنيان المرصوص، ما ان استشهد لها طالب، تداعت لها كافة الجامعات بالثأر والفوران.
 أما اكسجين ثورتي اكتوبر وابريل، فهو من شقين، تحرك القيادة السياسية وانحياز القوات المسلحة، وهما يأتيان تباعاً كاستجابة تلقائية لتفاعل عنصري الحرارة والوقود، وليس قبلهما، وبغض النظر عن ماهية تكوين الجيش وطبيعة عقيدته، فلا غنىً عن دوره لإكمال اضلع الاشتعال، وشبه مستحيل نجاح الثورة بدون مباركتهم، والأمل لا ينبغي أن ينقطع في انحيازهم، لأن قياداته هم ايضا بشر، ولهم تقديراتهم وحساباتهم الخاصة، والعنصر الأساسي لربط القوات المسلحة بهذا المثلث، هو انعدام الثقة، وتواتر ثقافة خيانة الرفاق بين منسوبيها، ولا ينبغي اليأس من محاولات اختراقها في الرتب الوسطى والدنيا، فالعمداء وما دونهم من الضباط بمقدورهم تجيير انحياز الجيش للشعب.
اما بالنسبة للقيادة السياسية، هناك تململ وعدم قبول واسع النطاق للزعامات التاريخية، وأبناء الاسر الكبيرة الذين يتكسبون سياسياً بأسماء اسرهم ويتخطون الرقاب بأنسابهم، ولهم مبرراتهم التي لا خلاف عليها، منها أن هذه الزعامات انتهازيون ونفوذ بيوتاتهم هي جزء من ازمة الحكم وسبب رئيس في اخفاق التجارب السابقة. إلا أننا نرى في هذه المرحلة، إن كانت كاريزما هذه الزعامات ورمزية اسرهم الطائفية ستضيف اكسجين اضافي ضروري لعملية الاشتعال، ليست من الحصافة السياسية المجاهرة برفض دورهم إن تقدموا الصفوف، لأن حقن نزيف دماء الهامش، ووقف تدمير مقدرات البلاد، مقدم على محاسبة هؤلاء على فشلهم المزمن،، واستغلال نفوذهم الطائفي في سلب مقدرات الغلابا بصور انتهازية مفضوحة. وفي تقديرنا أن معاقبة هؤلاء يجب أن تتم عبر المحاكمات السياسية مستقبلا، ومن خلال التوعية الجماهيرية بانتهازيهم.
والزعماء الذين آثروا الغربة على سجون النظام وزنازينه، والذين يخاطبون جماهيرهم online من وراء الحدود، نقول لهم، فليكن لكم في زعيمة المعارضة البورمية أون سان سو تشي قدوة حسنة، وهي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام 1991م، فقد وضعتها سلطات بلادها تحت الاقامة الجبرية عام 1989 م وتم عرض الإفراج عنها مقابل مغادرتها البلاد ولكنها رفضت، وظلت ترفض الدعوات المقدمة لها من المنظمات الدولية لحضور فعالياتها خارج بلادها، قائلة، إنها إن غادرت، فلا تضمن سماح السلطات لها بالعودة إلى شعبها، بينما يقول زعماء المعارضة في بلادنا الذين فروا بجلودهم تاركين شعوبهم يواجهون مصيرهم، يقولون، إن عدنا لا نضمن أن تسمح لنا السلطات الإنقاذية بالمغادرة مرة اخرى، ويا لها من مفارقة.
كما أننا نرى ان البيانات الصادرة من الحركات الثورية، المؤيدة للتحركات الطلابية، مضرة بالثورة المباركة، إذا أن زبانية النظام تتذرع بها للتنكيل بالمتظاهرين، وتستغلها في تعبئة مضادة، قد يصدقها  خفاف الرؤوس، بما أن دور  ونوايا هذه التنظيمات الثورية، غير منكور ضمنياً لدى للشارع السياسي، ننصح بالتوقف عن إصدارها مستقبلاً. وليتهم وجهوا منسوبيهم بالتماهي في الحركة الطلابية وتبني شعاراتها العامة، التوقف عن رفع الشعارات الثورية المسلحة والتي تبرر لزبانية النظام، تصويب الرصاص الحي على صدورهم دون غيرهم.
وفي هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ السودان، أعتقد من المفيد أن تركز جميع فصائل المعارضة  "الشريفة" في كيفية إسقاط النظام، وتأجيل مسألة ماذا بعد إلى الخطوة التالية، لأنها خلافية والغوص فيها تصب في مصلحة النظام، الذي يتضرر الجميع من استمراره.
ومن الواضح هناك سباق محموم بين فئتي، دعاة الإسقاط ودعاة التغيير، وبلا شك أن هذا الزخم السياسي لهذا السباق، يثير بلبلة لدى الرأي العام الداخلي والعالمي، مفاده أن النظام فقد مقومات الاستمرار، وانه آيل للسقوط، وهذا مفيد بالطبع في رفع درجة سخونة الساحة السياسية، وفي تقديرنا ان على دعاة الإسقاط ألاّ يعيقوا جهود دعاة التغيير، ببساطة إن فشلت مساعي الإسقاط، فإن كان من شأن التغيير وقف نزيف الدم على اقل تقدير، لهو افضل من استمرار الوضع الحالي، سيما للذين يدرؤون خطر الموت اليومي باللجوء إلى الكهوف وجذوع الأشجار، رغم أننا لا ننصح بتنسيق الجهود بين الفئتين، لأن دعاة التغيير لا يمكن الوثوق بهم، ولأن معظمهم ملوثون، ومن الأهمية بمكان الحفاظ على طرح الإسقاط ثم التغيير الراديكالي لكيفية حكم البلاد بمعزل عن "دغمسة" ومكر الإسلاميين.
فإن كان دعاة الإسقاط بواد، ومر بهم دعاة التغيير، فمن الحصافة السياسية، إفساح الطريق لهم، وعدم كعبلة مسيرتهم، بحجة أن "الإسقاطيين" هم اولى بصيد رأس النظام وأعوانه، الذين هم بصدد توفير الحماية لهم، ومن ثم ورثة اشلاء منظومتهم.
وفيما يخص الملاحقة ثم المساءلة الجنائية، فإن دعاة التغيير، لا يملكون لرأس النظام ولا لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ويخطئون التقدير ان ظنوا أنه بإمكانهم إجراء محاكمة صورية للبشير وأعوانه بغية تضليل الـ ICC واستغفال المجتمع الدولي، ببساطة لأن من أنضم أو عمل مع النظام في اية مرحلة، فهو بالطبع شريك اصيل معه في كافة جرائمه، وبالتالي تسقط عنه أهلية محاكمة رموزه، او حتى مجرد التوصية بشأن مصيرهم، وأظن أن هذا الأمر بديهي قضائياً، ولأن هؤلاء التغييرين، مهما اوتوا من قوة، ليس باستطاعتهم تمثيل الشعب السوداني فيما يخص مصير رأس النظام واعوانه المطلوبين دولياً، لأنهم شرذمة قليلون. فإن نجح التغييريون في "فصل" رأس النظام، او اقناعه بوقف فصل رؤوس أبرياء الهامش عن اجسادهم عبثياً، فإن ذلك في تقديرنا لن يضير الإسقاطيين، بل من المرجح أن يسهل مهمتهم إن استطاعوا المحافظة على مبدئهم. سئل ونستون شرشل عن النجاح فقال أن تنتقل من فشل إلي فشل دون أن تفقد حماستك.
الرأي المضاد لهذا الطرح، هو التصدي لإفساد مساع "التغييريين" والتي يراها البعض ما هي إلا نوع من ذر الرماد في العيون، لتمكين النظام من عبور المرحلة الحرجة التي يمر بها، وهم محقون في هذا التشكيك، لكننا نرى أن في هذا تشتيت لجهود "الإسقاطيين" وصرفهم عن جادة إيجاد حلول عاجلة للذين يواجهون خطر الموت المجاني يومياً. فالذين يقولون دعوا هذا النظام يستمر كما هو في القتل والتدمير، ريثما تتمكن المعارضة "الشريفة"، من تجاوز خلافاتها والتئام شملها لاقتلاعه من جذوره، نظن ان ايدي هؤلاء في الماء البارد.
ظل الشعب السوداني ينتظر الاسقاطيين سنينا عددا للاتفاق على الحد الادنى من الثوابت اللازمة للتصدي لتسلط النظام، وظل اهل الهامش يواجهون الموت الزؤام يوماً لأكثر من عقد من الزمان، وحتى اللحظة إذا نظرنا لهم بشقيها المدني والثوري المسلح، نرصد لهم عدد من التحالفات، وكم من الجبهات، والتكتلات والتجمعات، وعدد لا يحصى من الوثائق والنداءات الموقعة، فبدلاً من إضاعة الوقت والجهد في عرقلة جهود التغييرين، والتي لا يساورنا الشك في  عدم مصداقيتهم، إلا أن الاولي بهم بذل الطاقة والشعور بالمسئولية لتوحيد جهودهم لتوفير الاكسجين لأبنائهم الطلاب الذين ما لبثوا يقدمون الارواح سخية منذ مجيء الإنقاذ، كوقود لتهيئة الظروف الكيميائية لإكمال عملية الاشتعال الجماهيري لتضيء وهجها طريق الخلاص للبلاد التي تخلفت عن الركب بملايين الفراسخ.
ولا شك عندنا أن الاسلاميين ملة واحدة، ولكن هناك متضررون من مآلات النظام الحالي، ولا شك في أنهم يناورون من اجل استمرار نظامهم، ولكن بتكلفة اقل مما يكلفهم دفعها السفاح البشير، ولا شك ان منهم من يتطلع إلى العيش بسلام مع المجتمع دون دفع ثمن اخطائه، فإن كان هؤلاء يريدون إزاحة رموز النظام الحالي، فليفعلوا ونتحاسب، وفي غضون ذلك فليتكتل الإسقاطين لكنسهم جميعا، فمنهم من يخلد في النار، ومنهم من يزجر ليتطهر قبل أن يفتح له نفاج المشاركة في السلطة. ورغم أن مماحكة الإسقاطيين عمل مشين وتصرف غير مسئول، إلا أنه غير مبرر لوضع الأيدي في أكف القتلة ومصاصي دماء الشعب.
عودة مرة اخرى للحرارة كقاعدة لمثلث الاشتعال، فقد ظلت حرارة الساحة السياسية في تصاعد مستمر، ووصلت درجة الغليان مرتين، في سبتمبر 2013م وابريل من هذا العالم، ولكي تستقر في الفوران، على كل من يستأنس في نفسه صفة الزعامة السياسية او المدنية، أن يوفق اوضاعه، ويستعد للرحيل إلى سجن كوبر أو احمد شرفي، فإن كنا صريحين، لا يمكننا القول أن الشارع السياسي ساخن بما فيه الكفاية لإشعال الثورة، وجميع القيادات المعارضة ينامون في بيوتهم مع زوجاتهم، والنظام يتباهى بأن سجونه خالية منهم. هذه الخطوة تقتضي خروجهم جميعاً إلى الشارع العريض بدلاً من المشي "جنب" الحيط، وما قالتها الاستاذة سارة نقد الله "خرجنا ولن نرجع قبل أن نسقط النظام" ينبغي أن يكون شعار الجميع فعلا وليس قولا.
وقد صدق الصاغ محمود ابوبكر حين قال في هذا الخصوص في قصيدته الشهيرة صح يا كنار
فإذا ادّخـرتَ إلى الصباح بسالـةً
فاعلمْ بأن اليومَ أنسبُ من غـد
واسـبقْ رفاقَكَ للقيـود فـإنني
آمـنتُ أنْ لا حـرَّ غيرُ مُقيَّد

//ابراهيم سليمان//

ليست هناك تعليقات: